منظمة التحرير الفلسطينية
دائرة العمل والتخطيط الفلسطيني

الاقتصاد السياسي للدولة الفلسطينية

المقـدمــة

أصبح الحديث عن الدولة الفلسطينية وطبيعتها من قضايا الواقع والمستقبل معاً، فقد شكل قبول فلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة، إضافة جديدة ونوعية لمجموعة من قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم العتيدة. ومن ثم بات من الضروري تجديد الحديث عن طبيعة هذه الدولة وأنظمتها وعلاقاتها في ظل الاستقلال والسيادة. وأقول تجديد الحديث، لأن الدراسات حول مستقبل القضية الفلسطينية في ظل دولة مستقلة اقتصادياً وسياسياً، شغل حيزاً لا بأس به من الأدبيات المتعلقة بالاستشراف المستقبلي للدولة الفلسطينية. وأكثر هذه الدراسات إنما استهدف الاقتصاد الفلسطيني في ظل الدولة. وقد صدر معظمها معظم هذه الدراسات عشية التوقيع على اتفاق أوسلو أو بعدها. ومن أشهرها دراسة البنك الدولي والتي جاءت تحت عنوان "تنمية المناطق المحتلة: استثمار في السلام (أيلول 1993)"، التي رغم أهميتها على صعيد التحليل الاقتصادي، لم تشكل رؤية تنموية يمكن الاهتداء بها عند صياغة برنامج تنموي فلسطيني لأنها لم تنطلق من فرضية وجود دولة فلسطينية مستقلة.

وأعدت، في الوقت، نفسه منظمة التحرير الفلسطينية دراسة شاملة وهامة بعنوان "البرنامج العام لإنماء الاقتصاد الوطني الفلسطيني للسنوات  (2000- 1994) وقد استهدفت صياغة برنامج تنموي شامل للاقتصاد الفلسطيني، ورأيُنا أن هذا البرنامج من الممكن البناء عليه وتطويره فهو برنامج تنموي مصمم للدولة الفلسطينية ذات السيادة، بمعنى أنه يفترض إنهاء الاحتلال تماماً وإنجاز الاستقلال للدولة الفلسطينية، وهي فرضية تنسجم مع توجهنا في هذه الدراسة.

ومن الدراسات الهامة في هذا المجال دراسة الأنكتاد عام 1996 حول "التنمية المستدامة للاقتصاد الفلسطيني". استراتيجيات وسياسات إعادة الإعمار والتنمية". وهذه الدراسة، مثل دراسات الأنكتاد عموماً، تنطلق من رؤية واضحة للمشكلة الاقتصادية وهي التبعية لإسرائيل، ومن ثم فهي تقدم رؤية تنموية للوصول إلى دولة فلسطينية مستقلة. هذا إضافة إلى ما وضعته السلطة الوطنية الفلسطينية من خطط متوسطة المدى وقد تميزت من بين هذه الخطط خطة الإصلاح والتنمية 2008-2010 والتي صدر عنها وثيقة بعنوان "بناء الدولة الفلسطينية على طريق السلم والازدهار". ثم تبعها "خطة التنمية الوطنية 2011-2013: إقامة الدولة وبناء المستقبل"، وهي خطط، رغم عدم تطبيقها بسبب الظروف الذاتية والموضوعية التي تمر بها السلطة، إلا أنها تمثل وثائق هامة لتوجهات ورؤىً تنموية تعزز الرؤية التنموية للدولة الفلسطينية القادمة.

لقد حددت هذه الدراسة رؤيتها مستأنسة بالدراسات السابقة، وفي هُدى الثوابت والغايات التي وردت في المرجعيات الرئيسية الفلسطينية مثل وثيقة الاستقلال، ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، القانون الأساسي، إضافة إلى المعايير الدولية والإنسانية التي نادت بتحقيقها المواثيق وإعلانات القمم الدولية وعلى رأسها الحق في التنمية. وبشكل أكثر دقة فقد تأطرت رؤية الدراسة التنموية بالسعي إلى التخلص من المشكلة الحقيقية التي تعوق أية إنجازات تنموية، ألا وهي التخلص من التبعية لإسرائيل، من أجل بناء اقتصاد قوي وعصري. لذلك تركزت الاستراتيجيات المقترحة والتوجهات حول هذا الهدف وآليات الوصول إليه. فالقضاء على التبعية حتى في ظل الدولة الفلسطينية الناشئة، لن يكون سهلاً، وقد أصبحت نظاماً له آلياته وأدواته. إن تصفية آثار الاحتلال الماثلة بشكل رئيسي في التبعية، لا تتحقق تلقائياً، بل تحتاج إلى رؤية تنموية وسياسية واضحة يتبعها خطط وإجراءات وجهود إدارية تستهدف تفكيك الهياكل الاقتصادية المرتبطة بالاحتلال وما ترتب عليها من مصالح.

 إن أبرز ما سيواجه الدولة الفلسطينية حال نشأتها، هو الكم الكبير من التحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الناشئة عن عقود من الممارسات المضادة لكل الجهود الفلسطينية للانعتاق والتطور. ناهيك عن اتساع حجم الآمال والمتطلبات التي سيتوقعها مواطنو الدولة الفلسطينية وقد أصبح لهم دولتهم المستقلة. وهذا، ربما، سيزيد من صعوبة وأهمية تحديد دقيق للأهداف والأولويات. لذلك حاولت الدراسة النأي بنفسها عن الخوض في تفاصيل البرامج والمراحل المطلوبة لعملية التنمية المتوقعة وهي طويلة الأجل تستغرق سنوات من الجهد الدءوب والعمل المضني، تخطيطاً وتنفيذاً ومتابعة.

 وفي مواجهة هذه التحديات الجسيمة ستجد الدولة الفلسطينية نفسها مضطرة للعب الدور الرئيسي في عملية التنمية، ليس فقط لدعم القطاع الخاص وتهيئة المناخ الاستثماري وتطوير البنية التحتية، بل للمشاركة في النشاط الاقتصادي كلما كان ذلك ضرورياً لدفع عملية التنمية وتصويب مسارها. مستلهمة في ذلك تجارب هامة في التنمية لعبت فيها الدولة الدور الرئيس، وكانت النتائج معدلات نمو مرتفعة ومستمرة وبنية اقتصادية قوية وعصرية. وقد تواجه الدولة الفلسطينية معارضة كلما اتسع دورها وبرزت سيطرتها على الفعاليات الاقتصادية، ولكن الدولة الإنمائية المتدخلة، خاصة في مثل الحالة الفلسطينية، تعتمد على دعم شعبي واضح وعلى الأداء النزيه والتدخل المنطقي ونوعية الانجازات.

ورغم صعوبة البدايات عادة، إلا أن الدولة الفلسطينية لن تبدأ من الصفر، ولن تنطلق من فراغ، فهناك الكثير من الإنجازات التي يمكن الاعتماد عليها على صعيد المؤسسات والنظم والكادر البشري والخطط والدراسات والعلاقات الاقتصادية والاتفاقيات والدعم الدولي والمساعدات، والتي ستشمل عوامل داعمة لعملية التنمية بشرط استغلالها استغلالاً أمثلاً وكاملاً، ثم تطويرها لتلائم متطلبات الدولة. وستكون هذه البداية فرصة لإعادة النظر وبشكل جذري في الأداء السابق للسلطة وفي مجمل العلاقات الداخلية والخارجية، بل في إمكانية بناء عقد اجتماعي جديد للدولة الفلسطينية مع مواطنيها.

إن إتباع الدراسة لمنهجية الاقتصاد السياسي لدراسة مستقبل التنمية في ظل الدولة الفلسطينية، قد يمثل منهجاً ملائماً لحالة اقتصادية مثقلة بالأبعاد السياسية، ومن المعروف أن منهج الاقتصاد السياسي يوضح كيف تؤثر الدولة وعملياتها على الإنتاج وتوزيع الثروة، ويوضح أكثر كيفية تأثير القرارات السياسية والمصالح السياسية على الأنشطة الاقتصادية. إن التحليل الاقتصادي بمفرده غير قادر وقد لا يكون من صلاحياته المفاضلة بين المصالح، ويهدف فقط إلى تحليل النتائج الناجمة عن البدائل والخيارات ودور السياسة هو الاختيار بينها. إذن المقصود هنا هو توفير إطار متكامل لفهم الحقيقة السياسية والاقتصادية معاً. وسيكون هناك استفاضة في توضيح مفهوم وتطور الاقتصاد السياسي في مستهل الدراسة.

بيد أنه ينبغي ألا يفهم من تركيز الدراسة على مستقبل التنمية في ظل الدولة الفلسطينية، على أنها تسعى إلى البرهنة على جدارة الدولة الفلسطينية اقتصادياً. إن إقامة الدولة الفلسطينية حق سياسي وإنساني بغض النظر عن قضية الجدارة الاقتصادية التي قد تفتقدها العديد من الدول القائمة. وهذا لا يعني التقليل من أهمية دراسة الجدارة الاقتصادية الاقتصادية، فهي مطلوبة ولكن ليس لإثبات حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته، بل بهدف تقييم الإمكانات الاقتصادية وتحديد الأفق الذي يتيح لهذه الإمكانيات أن تبلغه والموارد والسياسات التي يجب أن توظفها لبلوغ الهدف. نشير إلى هذه الملاحظة المتعلقة بالجدارة الاقتصادية بسبب بروز العديد من الدعوات المتهافتة خلال العقود السابقة التي تحدثت عن عدم الجدارة الاقتصادية لإقامة دولة فلسطينية.

لست في حاجة في نهاية هذه المقدمة للتأكيد على أن الدراسة تفترض في رؤيتها التنموية وجود دولة فلسطينية، جاءت بعد انتهاء الاحتلال، وعاصمتها القدس الشريف، وفي حدود عام 1967، وتمتلك سيادة الدول المعروفة وتسيطر على مواردها ومعابرها وحدودها وقراراتها الاقتصادية والسياسية.

مهما يكن من شئ، فان من أهدافنا لإعداد هذه الدراسة، بعد هدف المساهمة في معركة البناء والتغيير، محاولة إثارة النقاش حول المقترحات التي بسطناها في فصول الدراسة وتفصيلاتها، والتي تبقى بأي حال، اجتهاد في إطار التخصص وما هو ملائم من التجارب التنموية الدولية الناجحة.

من أجل الوصول لأهدافها في استجلاء كنه وطبيعة التنمية المطلوبة في ظل الدولة الفلسطينية قُسمت الدراسة إلى ستة فصول. يمثل الأول إطاراً نظرياً لعرض مفهوم الاقتصاد السياسي. والثاني يحدد التحديات الاقتصادية التي من المتوقع أن تواجه الدولة باستعراض موجز للاقتصاد الفلسطيني وتحديداً إبراز كم وكيف التشوهات الهيكلية التي ترسخت في بنيته بعد عقود من الاحتلال. والثالث يتناول الرؤية التنموية للدولة الفلسطينية ودورها في عملية التنمية. بينما يناقش الرابع الإستراتيجية التنموية المتقرحة. يتبعه الفصل الخامس الذي يقدم رؤية لصياغة السياسات الإنمائية للدولة الفلسطينية ونختتم الدراسة بالفصل السادس الذي يستعرض المتطلبات الأساسية لتحقيق  التنمية واستدامتها.

في الختام، لا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل لمركز التخطيط الفلسطيني على اهتمامه البالغ بالدراسات والأبحاث التي تدرس وتحلل كافة الجوانب المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وقد كان للتشجيع المتواصل للسيدة الفاضلة مجد مهنا مدير عام المركز لإعداد مثل هذه الدراسات وإصدارها ضمن أنشطة المركز، دورا هاما في حث الباحث لانجاز هذه الدراسة التي نأمل أن تكون لبنة في بنيان الدولة الفلسطينية العتيدة.

د. مازن صلاح  العجلة

غزة في 21 نوفمبر 2013

2014-02-27 07:09:00