منظمة التحرير الفلسطينية
دائرة العمل والتخطيط الفلسطيني

تحول إسرائيل نحو اليمين يترك المواطنين الفلسطينيين بلا مأوى

تحول إسرائيل نحو اليمين

يترك المواطنين الفلسطينيين بلا مأوى

 

ترجمة: زهير عكاشة

المصدر: مشروع أبحاث ومعلومات الشرق الأوسط

الكاتب: جونثان كوك

التاريخ:13/2/2013

قبل وقت الاقتراع في الانتخابات الإسرائيلية العامة التي جرت في شهر يناير كانون ثاني أصدرت جامعة الدول العربية بياناً حثت فيه الأقلية الفلسطينية الكبرى التي تشكل نحو خمس سكان فلسطين على الذهاب إلى الانتخابات بالجملة. هذا التدخل الذي لم يسبق له مثيل من جانب جامعة الدول العربية وبتحريض من الوفد الفلسطيني في الجامعة يحركه عنصرين يثيرا الاهتمام الأول وهو أن استطلاعات الرأي تشير ولأول مرة في تاريخ الانتخابات الإسرائيلية العامة إلى أن نحو نصف المواطنين الفلسطينيين البالغ عددهم 1.4 مليون نسمة لن يصوتوا في الانتخابات. لوحظ هناك تراجع تدريجي في نسبة الإقبال فيما يتعلق بعملية أوسلو السلمية والذي بلغت ذروته أواخر التسعينات. بلغت نسبة التصويت آنذاك 75% وبعد ذلك بعقد أي في انتخابات عام 2009 تراجعت نسبة الإقبال على التصويت إلى أدنى مستوى تاريخي لتصل إلى 53%. أما العامل الثاني الذي يبعث على القلق هو أن أي تدني آخر في نسبة الإقبال على التصويت سيعمل على تآكل نفوذ ما يسميه الإسرائيليون "كتلة يسار الوسط" وهو المعارضة الانتخابية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والجناح اليميني والأحزاب الدينية التي انضمت للحكومة. ترى جامعة الدول العربية أن الأمل الوحيد الذي يحذو الكتلة المعارضة فيما يخص وقف تشكيل ائتلاف يميني آخر وبالتالي استمرار الجمود المستمر في المفاوضات على الفلسطينيين هو أن الأحزاب الفلسطينية الثلاثة أو الأحزاب التي يهيمن عليها الفلسطينيون ستجلب ناخبي الأقلية والفوز بمقاعد كثيرة بغية تعزيز كتلة يسار الوسط. واقع الأمر هو أن دعوة جامعة الدول العربية تكشف عن سوء فهم شامل مترسخ للسياسات الإسرائيلية حتى من قبل محمود عباس ومسؤولين آخرين لجناح رام الله في السلطة الفلسطينية. يفترضون أن شكل نظام الحكم في إسرائيل يمكن أن يقسم بشكل مرتب إلى يسار ويمين وأن الخلافات بين الجانبين تنطبق بالدرجة الأساس على الرغبة النسبية في تقديم تنازلات في سبيل الدفع إلى الأمام بالعملية السلمية.

سباق تعادل أسطوري

فور إعلان نتيجة الانتخابات أخذ نيف غوردون أستاذ العلوم السياسية في جامعة بن غوريون يرسم عدد من الرسومات البيانية تحطم من الناحية الشكلية تشكيلة الكنيست الجديدة وتقسمها إلى مجموعات ثنائية ولكن هناك مجموعة أسطورية لفتت انتباه وسائل الإعلام الدولية وفيها طرفان، الطرف الأول كتلة الجناح اليميني لنتنياهو ويسار الوسط وقد بدا أنهما منقسمين. يتمتع نتنياهو في الأولى بأغلبية ضئيلة للغاية 61 مقعداً والأخرى 59 مقعداً.

عند تسليط الضوء على هذه النتائج يتبين مدى خطأ كل التنبؤات حول اكتساح الجناح اليميني. بدا الأمر وكأن الإسرائيليين كانوا مستعدين للسلام والمصالحة أكثر ما كان يفترض في السابق. لقد خدمت هذه الصورة كل إنسان على نحو جيد. فقد ساعدت نتنياهو على الإيحاء للمجتمع الدولي بأن هذا الائتلاف سيختلف اختلافاً كلياً عن حكومته السابقة التي كرهها المجتمع الدولي وقد وفرت للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فاتحة لإعادة مسيرة السلام التي تغط في سبات عميق كما يفترض أنها أتاحت لرام الله تقديم تبرير طازج لتركيز عباس على المسار الدبلوماسي خلافاً لمسار "المقاومة" الذي تنتهجه حماس أبرز خصومه السياسيين. هذه المتلازمة من الفوائد المتبادلة تفسر لنا سبب تضايق بعض المراقبين إلا غوردون عند اعتبار وسائل مختلفة في تقييم نتائج الانتخابات. ينوه أستاذ العلوم السياسية إلى أن 90% من المشرعين في الكنيست الجديدة البالغ عدد مقاعدها 120 مقعداً هم صهاينة من حيث الأيدلوجية الصلبة والأعضاء المناهضين للصهيونية في الكنيست هم من الأحزاب العربية الثلاثة التي تمثل الاسلاميين والقوميين والشيوعيين في الأقلية الفلسطينية. إن اهتمام جامعة الدول العربية غير المتوقع بهذا الحق الدستوري قد يكون السبب في تحفيز المواطنين العرب وارتفاع نسبة الإقبال على التصويت عندهم وليس كما كان يظن أن تهبط النسبة إلى 56% رغم أن تمثيل الأحزاب الثلاثة (11 مقعداً) بقي كما هو لم يتغير. الأهم من ذلك كله هو أن غوردون قدم تقسيمة للكنيست استناداً إلى برامج الأحزاب إلى مشرعين راغبين ومشرعين غير راغبين في تقديم تنازلات جدية مطلوبة لتحريك عجلة العملية السلمية إلى الأمام وعلى هذا الأساس زاد حجم (كتلة السلام) بنسبة ضئيلة للغاية على حساب الكتلة المناهضة للصهيونية فالأحزاب الفلسطينية الثلاثة إضافة إلى الحزب الصهيوني اليساري ميرتس تشكل 15% من الكنيست الجديدة.

الصفقة مع حزب حنين الزعبي

لاشك أن هذه الرؤية لغوردون سرعان ما تبددت من قبل يائير لابيد المعلق التلفزيوني السابق وزعيم حزب (يوجد مستقبل) الوسط. وفي خضم مفاجأة النجاح الانتخابي فاز (يوجد مستقبل) بـ 19 مقعداً ليجعله يلي مباشرة الـ 20 مقعداً التي ضمنها نتنياهو وحزب الليكود. خاض نتنياهو الانتخابات ضمن قائمة مشتركة مع حزب يسرائيل بيتنا لأقصى اليمين الذي يرأسه أفيغدور ليبرمان وقد حصلا مجتمعا على 31 مقعداً. إن انتصار لابيد ودوره المفترض كصانع للملوك كان النتيجة الأولى التي استنتجها أغلب المراقبين وهي أن الإسرائيليين يتوجهون نحو اليمين. أحد تصريحاته، أي تصريحات لابيد، تفند ما ذهب إليه النقاد الذين كانوا يتساءلون عما إذا كان لو توجه تشكيل تحالف مع أحزاب اليسار الوسط الأخرى لتشكيل معارضة وطيدة تمكنها من انتزاع رئاسة الوزراء من نتنياهو. لابيد رفض هذه الخيارات والذي صرح ضمناً عن نيته الانضمام لحكومة نتنياهو قال (لقد سمعت ما يتداول عن الأغلبية المعطلة وها أنا أريد أن أزيل ذلك عن الطاولة لن نفعل ذلك مع حنين الزعبي ولن يحصل مثل ذلك الأمر). والإشارة إلى حنين الزعبي العضو الفلسطيني في البرلمان الإسرائيلي التي يمقتها اليهود تكشف تفهم لابيد للمقتضيات السياسية القومية دخلت الزعبي الكنيست عام 2009 كأول امرأة فلسطينية تنتخب نيابة عن حزب فلسطيني المسمى بالتجمع الديمقراطي الوطني وأعيد انتخابها في يناير الماضي. وسمت الزعبي في ولايتها الأولى وعلى الفور بالعدو رقم واحد للجمهور وذنبها أنها شاركت في أسطول الحرية الذي حاول خرق الحصار المضروب على قطاع غزة في مايو أيار من عام 2010. سفينة القيادة التي كانت على متنها وهي سفينة تدعى مافي مرمرة تحمل العلم التركي تعرضت للهجوم من قبل مجموعة من رجال الكوماندوز التابعين لسلاح البحرية الإسرائيلي في المياه الدولية وقد قتل فيها سبعة من المتضامنين الدوليين. ولأنها تتمتع بوضع عضو كنيست كانت أول من أفرج عنهم من المتضامنين. عادت الزعبي وهي تحمل شهادة على وقائع الوحشية الإسرائيلية على متن السفينة مرمرة وكذبت الرواية الإسرائيلية لما حدث وساعدت في حشد الانتقادات الدولية للتصرف الإسرائيلي. ونتيجة لذلك تعرضت للازدراء في باحة الكنيست وشيطنها الساسة ووسائل الإعلام الإسرائيلية وتلقت سيلاً من التهديدات بالقتل من قبل الجمهور الاسرائيلي. عززت لدى أغلب اليهود الإسرائيليين الشكوك بأن أعضاء الكنيست الفلسطينيين والأقلية الفلسطينية هم في الأغلب طابور خامس.

يشير خيار لابيد باستبعاد الزعبي ناهيك عن استخدام اسمها مقروناً بصيغة الجمع (الزعبيون) إلى أنه يشاطرهم نفس الرأي وتعكس كلماته فرضية شائعة بين الجمهور الإسرائيلي وهي أن أغلب الأحزاب الفلسطينية كشفت عن "خيانتها" من خلال دعمها لحقوق الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. الواقع هو أن لابيد تفادى ضم أي مرشح فلسطيني لقائمته الانتخابية حتى ولو على أسفل القائمة التي يصعب فيها فوز المرشحين. عدا عن ميرتس لم تضع أي من الأحزاب اليسارية الأخرى أي مرشح فلسطيني ضمن قوائمها أو في أي منصب انتخابي. حقيقة الأمر هو أن تلويث الرأي العام اليهودي للأحزاب الفلسطينية هو أعمق من ذلك. فإذا ما أمعنا النظر في إيجندتهم الداخلية الرئيسية المتمثلة في الكفاح من أجل المساواة في الحقوق والذي يتجسد من خلال المطالبة بتحول إسرائيل من دولة يهودية إلى دولة لجميع مواطنيها، نجد أن هذه الأحزاب وجدت نفسها متهمة بالعمل (كحصان طروادة) بمعنى أنهم متهمون بالسعي لتقويض إسرائيل كدولة يهودية نيابة عن فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة. جنون الارتياب هذا من قبل المؤسسة الأمنية والسياسية هو الذي غذى مطالب الحكومة الإسرائيلية من عباس ومنظمة التحرير الفلسطينية بضرورة الاعتراف يهودية الدولة كشرط مسبق لمفاوضات السلام. ببساطة يتبع لابيد نهج راسخ في السياسة الإسرائيلية يقوم على أساس أن من واجب الأحزاب اليهودية الإسرائيلية الذود والدفاع عن إجماع إسرائيلي. يتألف هذا الإجماع من عدة مبادئ رئيسية وهي أن إسرائيل لابد أن تكون دولة يهودية عرقية تمثل كافة اليهود في العالم وليس مواطنيها المختطفين إثنياً وأن أي دولة فلسطينية قابلة للحياة في الأراضي المحتلة ستشكل تهديداً استراتيجياً لإسرائيل لذا لابد من منع قيامها وأن لا يسمح إطلاقاً للأحزاب الفلسطينية بممارسة أي تأثير على السياسة التي يرسمها أي من هذين المبدأين. هناك حكومة إسرائيلية واحدة تجرأت على انتهاك المبدأ الأخير حيث سمح اسحق رابين للأحزاب الفلسطينية بدعم حكومته الأقلية من خارج الائتلاف وهذا اتفاق ساعده على التقدم في عملية أوسلو أوائل التسعينات.

ورغم أنه وضع الأحزاب الفلسطينية تحت إبطيه إلا أن هذا الترتيب أثار غضب اليمين الذي اعتبره ضرباً من الخيانة غير المقصودة وهذا الخطاب الملهب ضد رابين والذي شارك فيه نتنياهو سخن الأجواء السياسية التي شكلت وازعاً لدى الشخص الذي اغتال رابين على إطلاق رصاصاته عليه عام 1995.

لاشك أن اغتيال رابين لم يحصن اليسار الاسرائيلي كما توقع البعض بل على العكس جلب نتنياهو ليتولى دفة السلطة في أول ولاية له بدأت عام 1996. تبددت كافة الشكوك بأن تصبح الأحزاب الفلسطينية شريكاً شرعياً في الحكومة على نحو حاسم إلى الأبد. في الخطاب نفسه الذي نأى فيه لابيد بنفسه عن الزعبيين أشار إلى أن الاقتراع كان بمثابة طلباً من الناخب "بالحالة السوية" والتي يبدو أنها تتطلب إقصاء الأحزاب الفلسطينية عن السلطة السياسية.

العداء في الكنيست

يدرك أعضاء الكنيست الفلسطينيين تمام الإدراك مدى العداء المتزايد لوجودهم في باحة الكنيست وكما قال جعفر فرح من مركز الدفاع عن المساواة لمجموعة الأزمات الدولية عام 2012: "بالنسبة لوسطنا كان هناك تغيراً جذرياً كون الخطاب العنصري يشق طريقه إلى المناظرات العامة السائدة. ففي الثمانينات شارك الليكود بفاعلية في تهميش ساسة عنصريين صريحين من أمثال مائير كهانا أما اليوم فيجلس ساسة الليكود جنباً إلى جنب مع العنصرين في الائتلاف الحكومي". هذه الكراهية الفطرية تجاه الأحزاب الفلسطينيين اهتدت أيضاً إلى القاعدة الانتخابية وهي الأقلية الفلسطينية فقد قدم إلى الكنيست الأخيرة العديد من مشاريع القوانين التي تسعى إلى الحد من حقوق المواطن الفلسطيني بناء على المنطق الذي يقول أنهم لا يؤدون واجباتهم نحو الدولة. عامل التأثير الأيدلوجي الملهم لهذا التشريع تجسد في الحملة الانتخابية لأفيغدور ليبرمان عام 2009 والذي شغل فيما بعد وزير خارجية نتنياهو وكان شعارها "لا ولاء لا مواطنة". سيطرت الأحزاب الصهيونية الرئيسية أثناء الحملات الانتخابية على هيئة حزبية عليا تسمى لجنة الانتخابات المركزية التي يشرف عليها أحد قضاة محكمة العدل العليا. أصبحت لجنة الانتخابات على مدار العقد الماضي أداة لجهود نزع الشرعية عن الأحزاب الفلسطينية وإنكار حقها في المشاركة في انتخابات الكنيست.

تركزت هذه الجهود بدرجة أساس على التجمع الديمقراطي العربي وهو حزب قومي أسسه أستاذ الفلسفة السابق عزمي بشارة عام 1995 مباشرة بعد التوقيع على اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. أحدث بشارة تغييرين رئيسيين في المشهد السياسي للأقلية الفلسطينية الأول ويتمثل في تسليط الأضواء على التناقض بين المطالبة بتساوي الحقوق ويهودية الدولة والذي تجسد خلال شعار حملته الانتخابية (دولة لكل مواطنيها). والثاني الإدراك التام بأن المسؤولين الإسرائيليين لن يكونوا راغبين في الإذعان لإعادة توصيف الدولة وقد عامل الكنيست مبدئياً بالشكل الذي وصفه أحد المسؤولين "بساحة المواجهة" وذلك باستخدامها من أجل إبراز حدود الديمقراطية الإسرائيلية. هناك من يقول أن نجاح بشارة يمكن أن يقاس بالدرجة التي غير فيها نهج خصومه السياسيين وهما القائمة العربية الموحدة بزعامة أحمد الطيبي ذات التوجه الاسلامي والآخر الأشد حقداً وهو الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وهي حزب يهودي عربي يعرف بالعربية باسم حداش ذو التوجه الشيوعي. تعزز التوافق الجديد بعد صدور وثيقة الرؤية الجديدة للفلسطينيين العرب في إسرائيل وهي وثيقة مشتركة نشرت عام 2006 من قبل المنظمات السياسية الرئيسية التي تضمنها الكثير من أفكار بشارة. من وراء الكواليس كان جهاز المخابرات الداخلية الشين بيت ينظر ويراقب بعين القلق وقد تبين فيما بعد أن الشين بيت حذر الحكومة من أن مطالب الأقلية الفلسطينية بالمساواة في الحقوق يمثل (تخريباً) وأن على إسرائيل أن تتصرف وفق مبدأ (الديمقراطية تدافع عن نفسها). بعدها بمدة قصيرة اضطر بشارة للجوء إلى المنفى بعد أن اتهم بمساعدة حزب الله على تحديد أهداف داخل إسرائيل لقصفها بالصواريخ خلال الهجوم الاسرائيلي على لبنان عام 2006. يشرح أحد مسؤولي الشين بيت لمجموعة الأزمات الدولية المنطق الذي قام عليه طرد بشارة:-

"لإسرائيل وسيلتين يتم من خلالهما التعامل مع ساسة عرب إسرائيل الذين يصورون على أنهم تهديد للنظام وهما الترويض أو الإبعاد. إما أن تخضع هؤلاء القوم أو أن تجبرهم على مغادرة الساحة بالكامل. عندما أعرب عزمي بشارة عن دعمه لدولة ثنائية القومية اعتبر ذلك تهديداً في غاية الخطورة تقريباً إعلان حرب بعد نفيه تقلص تأثيره على نحو سريع. لا يزال بشارة يكتب في صحف عربية ويستضاف بين تارة وأخرى على شاشة قناة الجزيرة العربية بيد أن الأغلبية اليهودية ما عادت تهتم به كثيراً. بالنسبة للمؤسسة الأمنية حلت قضية بشارة بشكل "ناجع".

تسرب هذا التفكير إلى الساحة السياسية أيضاً وبالضبط مثلما قرر الشين بيت أن التهديد الذي يمثله بشارة يمكن أن يقضي عليه من خلال إزاحته من إسرائيل، خلص الكثير من السياسيين إلى أن التهديد الذي تتضمنه الإيجندا السياسية للأحزاب الفلسطينية يمكن أن يحل على نحو جيد من خلال إزاحتهم عن الحلبة التي تمنحها لهم الكنيست.

الحرمان من حق الترشح يسير في حركة دائرية

أضحى النقاش حول حق الأحزاب الفلسطينية ولا سيما التجمع الديمقراطي العربي في خوض الانتخابات الوطنية معلماً أساسياً في كل حملة من الحملات الانتخابية التي جرت على مدار العقد الماضي. بيد أن الأحزاب الصهيونية الكبرى استطاعت التحرك نحو تجاوز التهديدات إلى محاولات حرمان الأحزاب والمرشحين الأفراد من خلال لجنة الانتخابات المركزية. ففي انتخابات عامي 2003 و2009 قررت لجنة الانتخابات حرمان التجمع الديمقراطي الوطني بدعم صريح من قبل جهاز الشين بيت كما استهدفت عناصر القائمة العربية والموحدة غير أن هذا القرار رفض في تلك الحالتين بعد التماس قدم إلى محكمة العدل العليا.

وبسبب العضوية اليهودية- العربية المشتركة تجنبت الجبهة الديمقراطية لغاية الآن هذا المصير رغم أن بعض أعضاءها من الفلسطينيين تعرضوا للمضايقات. فعلى سبيل المثال تعرض رئيس الحزب محمد بركة لسلسلة من الإجراءات القانونية المريبة من قبل الدولة حيث يخضع الآن لمحاكمة بتهمة الهجوم على جندي أثناء مظاهرة بالضفة الغربية. يبدو أن الأحزاب اليمينية الإسرائيلية على دراية أنها ليست بحاجة للتصدي للأحزاب الفلسطينية بغية إنهاء التمثيل الفلسطيني في الكنيست. يفترض بشكل عام أنه إذا حرم حزب فلسطيني من خوض الانتخابات فعلى الفور ستشعر باقي الأحزاب الأخرى أنها مضطرة للانسحاب من خوض السباق تضامناً مع الحزب الممنوع. كان من المتوقع أن تجري انتخابات عام 2013 وفق نصوص الانتخابات السابقة. ففي الوقت الذي أخذ فيه اليمين يطرح مشاريع قرارات عديدة تحظر التجمع الديمقراطي الوطني والقائمة العربية الموحدة رفضت لجنة الانتخابات المركزية ذلك في نهاية المطاف وإن كان بفارق بسيط كما حدث في قضية التجمع الديمقراطي الوطني لأسباب ستذكر لاحقاً. وفي المقابل حسمت اللجنة أمرها فيما يتعلق بحزب حنين الزعبي الهدف الأسهل. تم التوصل إلى القرار رقم الرأي الاستشاري المقدم من قبل النائب العام يهودا ونستين الذي يقول أن ليس هناك أدلة استثنائية حاسمة تدعم اخراجها. يجيز القانون الأساسي في الكنيست حرمان حزب ما أو فرد من الترشح إذا حرض على العنصرية أو أنكر الطابع اليهودي والديمقراطي للدولة أو أيد الكفاح المسلح أو الإرهاب ضد إسرائيل. أشارت لجنة الانتخابات المركزية إلى مشاركة الزعبي في أسطول المساعدات عام 2010 معتبراً ذلك "دعماً للارهاب" كما أشارت إلى رفض الزعبي لإسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية. بيد أن القضية ضد الزعبي كانت واهية جداً لدرجة اعتقد بعض المراقبين أنها سترفض من قبل المحكمة. أشار مسؤولو التجمع الوطني الديمقراطي إلى أن الزعبي لم تختار شخصياً للصعود على متن سفينة مرمرة. فقد قررت لجنة المتابعة العليا وهي هيئة تمثل الأقلية الفلسطينية ككل أنه لابد من تمثيل الوسط العربي وبناء على ذلك فقد اختارها حزبها. أيضاً مواقفها الأيدلوجية حيال طابع إسرائيل تعكس ببساطة برنامجها الانتخابي وقد تعهد مسؤولو الحزب بمقاطعة الانتخابات إذا منعت من ذلك. هناك مشاكل واضحة أخرى بالنسبة لهذه القضية. ففي عام 2011 أغلق مدعي عام الدولة ملف مشاركة الزعبي في أسطول المساعدات لأنه لم يجد أي دولة ملموسة تثبت انتهاكها للقانون فضلاً أن إسرائيل لم تعلن عن المؤسسة الخيرية التي سيرت سفينة مافي مرمرة على أنها منظمة ارهابية وقت انطلاق الأسطول. يذكر أن السيد حسن جبارين محامي الزعبي من مؤسسة عدالة لحقوق الانسان فاجئ المحكمة عندما كشف النقاب عن أن المجموعة لم تصنف كذلك حتى بأسابيع قليلة قبل جلسة الاستماع الأولية في القضية. ولكن كما نوه المقال الافتتاحي في صحيفة هآرتس بالقول "نحن نتعامل مع حملة عنيفة ضد الأحزاب السياسية العربية" أظهر استطلاع للآراء أجري في شهر ديسمبر كانون أول من عام 2012 أن 55% من اليهود الإسرائيليين يعتقدون أن الحظر على الزعبي أمر مبرر. وكما توقع فقد ردت محكمة العدل العليا طلب حرمان ترشح الزعبي بالأغلبية. بعد القرار صرحت الزعبي بأن "هذا الحكم لن يقدم الكثير في القضاء على التهديدات أو نزع الشرعية أو المضايقات الجسدية والمعنوية التي تعرضت لها داخل وخارج الكنيست على مدار الثلاث سنوات المنصرمة".

ولإحداث تأثير دراماتيكي كانت الزعبي تعترم الإدلاء بهذا التصريح لوسائل الإعلام التي كانت تنتظر في الخارج عند مغادرتها باحة المحكمة غير أنها أدخلت من باب خلفي لدواعي السلامة علماً بأن نحو عشرون من أنصار اليمين المتشدد أغلقوا طريقها إلى الباب الأمامي حيث بدأوا يتدافعون بشدة ويهددون مرافقيها. أسرع المشرعون من الأحزاب اليمينية إلى انتقاد القرار إذ يقول ياريف ليفاين من الليكود "بدون أن تفجر الزعبي نفسها في الكنيست فلن يفهم قضاة محكمة العدل العليا أن ليس لها مكان هنا". أيضاً أصدرت القائمة المشتركة الليكود- يسرائيل بيتنا بياناً تقول فيه أنها ماضية في تقديم مشاريع قوانين تحد من حقوق المواطنين الفلسطينيين وممثليهم في الدولة. وجاء في البيان "أي تعبير عن دعم الإرهاب لابد أن يكون أساساً للحرمان من الترشح للانتخابات. سوف يعمل الليكود- يسرائيل بيتنا في الكنيست القادمة على تثبيت القوانين القائمة".

تراجع الإقبال على التصويت

بعد الاقتراع ورغم الزيادة المتواضعة في نسبة إقبال الفلسطينيين على التصويت أخذت الأحزاب الفلسطينية توبخ بقسوة ناخبيها لعدم التصويت بأعداد أكثر وهنا يشتكي الطيبي قائلاً أنه لو تجاوزت نسبة إقبال الفلسطينيين على التصويت الـ 60% لاستطاع أي تحالف بين يسار الوسط والأحزاب الفلسطينيية تأمين النصر ويضيف لصحيفة هآرتس قائلاً "كان بمقدورنا الإطاحة بنتنياهو" وقال بركة زعيم الجبهة الديمقراطية "إن من لم يذهب للتصويت فلينظر إلى نفسه في المرآة".

إن استبعاد لابيد الفوري لسيناريو التعاون يجعل من هذه التعليقات أمراً سخيفاً. كان الطيبي وبركة يستغلون الآمال الوهمية بإعادة نفخ الصور في يسار الوسط لمصالحهم الشخصية. لوحظ أن هناك تيارين في التصويت بين الفلسطينيين في إسرائيل منذ اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 الأول يتمثل في تراجع نسبة المشاركة في التصويت. تقول وسائل الإعلام الإسرائيلية أن هذا التراجع يعكس فشل الأحزاب الفلسطينية نفسها. يقال أنها فشلت في تمثيل اهتمامات ناخبيها الحقيقية وفهم الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني على حقيقته بدلاً من التركيز على قضايا الرزق. يشير المحللون إلى التناقض الواضح بين نسبة إقبال الفلسطينيين على التصويت في الانتخابات البلدية (كانت النسبة عام 2008 نحو 80%) ونسبتهم في الانتخابات الوطنية بعد عام من ذلك إذ بالكاد تجاوزت نسبة المشاركين النصف. بيد أن هذا التقييم ينسى أن هناك تياراً هاماً ثانياً على نفس القدر من الأهمية.

ففي عام 1999 دعم 31% من الناخبين الفلسطينيين الأحزاب الصهيونية وعلى رأسها إن لم يكن جلها حزب العمل وحزب ميرتس. بعد نحو عقد هبطت النسبة إلى 18% والكثير ممن استمر في التصويت لصالح الأحزاب الصهيونية هم من الدروز والبدو في الجليل وللوسطين سجل طويل من الخدمة في صفوف الجيش الإسرائيلي وبعدها في الأجهزة الأمنية كضباط صغار في حرس الحدود أو حراس سجون. وإذا ما أخذ بعين الاعتبار التيار الثاني نجد أن نسبة لا بأس بها من التصويت يمكن أن تُعزى إلى التحرر المتنامي من جانب المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل من سحر اليسار الصهيوني والعملية السلمية التي يفترض أنهم يناصرونها. وهذا التفسير يساعد على فهم سبب استمرار الأحزاب الفلسطينية في الفوز بنفس النصيب من المقاعد في الكنيست (عشر المقاعد) رغم التراجع الكلي في نسبة التصويت على مدار العقد الماضي. يقول جمال زحالقة زعيم التجمع الوطني الديمقراطي الوطني بعد الإعلان مباشرة عن نتائج الانتخابات "أنا ضد الادعاء القائل بأن هناك انعدام للإيمان بالأحزاب العربية لأنه وفي نهاية اليوم أغلب الوسط العربي صوت في حقيقة الأمر للأحزاب التي تمثله".

ومهما يكن من أمر يبدو أن هناك بوادر عن ابتعاد الأقلية الفلسطينية عن السياسات الوطنية الأمر الذي يعكس الرد الباهت على الحملة الانتخابية في الوسط الفلسطيني وبروز مقاطعة رسمية للحملة تزعمتها حركة أبناء البلد وهي حركة فلسطينية قومية علمانية يدعمها الشيخ رائد صلاح إضافة إلى ذلك عدم راحة ملموسة من قبل الأحزاب الفلسطينية الثلاثة من توقيت الانتخابات. تقول أمل جمال أستاذة العلوم السياسية بجامعة تل أبيب أن المواطنين الفلسطينيين لم يحسموا أمرهم بالنسبة لجدوى المشاركة السياسية وهل ستغير هذه المشاركة شيء والأغلبية تطرح هذا السؤال "ما الفائدة"؟

لا يوجد بعد بحد ذاته يمكن أن يفسر سبب هذا الاستثمار الضعيف من قبل الأقلية الفلسطينية في السياسات الوطنية. يعزي ذلك من جانب إلى الإدراك بأن الكفاح في سبيل المساواة المدنية محكوم عليه بالاخفاق بسبب تعريف إسرائيل لنفسها على أنها دولة يهودية. ومن جانب آخر نابع من تهميش الأحزاب الفلسطينية إلى حد أنها لا تستطيع أن تفعل أكثر من مجرد الصراخ في مداولات الكنيست ونابع أيضاً من الخشية أنه كلما حولت الأحزاب الفلسطينية باحة الكنيست إلى ساحة مواجهة كلما زاد إصرار الأحزاب الصهيونية على الاقتصاص بالمزيد من الاجراءات ضد العرب. إن عزوف المواطنين الفلسطينيين عن النظام السياسي تجلى بوضوح من خلال مسح أجري في جامعة حيفا في ديسمبر كانون ثاني الماضي أظهر أن 79% ليس لديهم أو على الأقل لديهم إيمان قليل جداً بمؤسسات الدولة بما فيها الكنيست وأن 67% ليس لديهم ثقة بالأحزاب العربية. النجوم اللامعة في الحملة الانتخابية للتجمع الديمقراطي الوطني تمثلت على سبيل المثال في قادة الأحزاب اليمنية المتشددة كأفيغدور ليبرمان وزعماء حركة كاخ السابقين من أمثال ميخائيل بن آري وباروخ مارزيل الذين خاضوا الانتخابات عن حزب عتصما لإسرائيل (إسرائيل قوية). يذكر أن حزب إسرائيل قوية فشل في تجاوز نسبة الحسم الانتخابي ولم يدخل الكنيست. وفي هذا الصدد يقول زحالقة "نحن نسعى جاهدين لإقناع أولئك غير المبالين بالذهاب إلى الانتخابات لأن كل صوت له حسابه ومن لا يصوت فهو يخدم الجناح اليميني بالدرجة الأساس". عندما ينظر المرء إلى لوحات الإعلان في المدن والقرى الفلسطينية يرى وجه ليبرمان مطأطأً وبجانبه سؤال باللغة العربية "لمن تترك الكنيست؟" هناك إعلان تلفزيوني خاص بالتجمع الديمقراطي الوطني يعرض رسماً كارتونياً لليبرمان وهو ينشد السلام الوطني الإسرائيلي ويرقص طرباً على أنغام موسيقى أفراح عربية. بيد أن هذا الإعلان سرعان ما حظر من قبل لجنة الانتخابات المركزية بتهمة إهانة النشيد الوطني لا إهانة ليبرمان لكن أصدرت محكمة العدل العليا قراراً بإعادة بثه.

التغيير الآخر الذي أحدثته الأحزاب الفلسطينية تمثل في ربط الحملات الوطنية بالانتخابات البلدية القادمة تأكيداً على أواصرهم بالقادة المحليين الشعبيين أملاً في تعبئة المزيد من الناخبين. تجلى ذلك بوضوح في المدينة الكبرى شفا عمر التي جند فيها رئيس البلدية ناهد خزيم عن الجبهة الديمقراطية وزعيم المعارضة في التجمع الديمقراطي الوطني أمين عنبتاوي لخدمة حملتهما الانتخابية الخاصة بهما.

الخطوة الثالثة تجسدت في الاتفاق غير المعلن بين الأحزاب على عدم الدعاية العدائية بين الأحزاب أمر أدى إلى ما تصفه مساواة بالحملة الهاجعة جداً. على ضوء هذه الروح وافقت القائمة العربية الموحدة وتحت وطأة ضغوطات مارستها عليها أحزاب أخرى بإزالة ملصقات كتب عليها: "إذا لم تصوت للقائمة العربية الموحدة فكأنما تصوت للصهيونية".

هذا التكتيك الأخير في الرخرخة للخصوم السياسيين كان بالدرجة الأساس رد اللحظة الأخيرة على الانتقادات المتصاعدة للأحزاب الفلسطينية لأنها فشلت في التغلب على خلافاتها الأيدلوجية وفي الأغلب التافهة من أجل تقديم قائمة موحدة وقت الانتخابات. مهما يكن من شأن القيود على فاعلية الأحزاب في الكنيست إلا أن الجدال يمضي قدماً مزيد من الوحدة شأنه أن يعزز التكتل الفلسطيني ويجعل من الصعب تجاهله. لقد حددت حنين الزعبي هذا المفهوم عدما قالت "نحن نعرف أننا نخسر على الأقل خمسة مقاعد حسب استطلاعات الرأي والرأي العام". بعد وقت قصير من إعلان موعد الانتخابات في عام 2012 أخذت مواقع التواصل الاجتماعي تحث الأحزاب على التعاون فيما بينها بشكل أوثق.

ولأنهما حساستان تجاه هذه الانتقادات حاولت القائمة العربية الموحدة والتجمع الديمقراطي الوطني في كلا الانتخابات إبرام اتفاق مع الجبهة الديمقراطية حول ميثاق انتخابي. رفضت الجبهة ذلك معربة عن قلقها من أن أي اتحاد مع الحزبين الأخيرين سينفر أكثر من ثماني آلاف مؤيد يهودي لها وينهي موضتها كحزب عربي- يهودي. سعى التجمع الديمقراطي الوطني في هذه الانتخابات ولأول مرة إلى إحراج الجبهة مبرزاً حقيقة أن التحفظ الأخير يشكل العقبة الوحيدة أمام الاتفاق. تقول الزعبي خلال مقابلة أجريت معها "إن الحزب الشيوعي الذي لا يسمي نفسه حزب عربي بل حزب يهودي- عربي ورغم أن 87% من ناخبيه هم من العرب يقول "نعم يمكن أن أتخلى عن خمس مقاعد ويمكن أن أتخلى عن 150 ألف ناخب لأن هذا جزء من أيدلوجيتي كحزب يهودي وعربي".

الاقتراع عكس التهور

في الوقت الذي أصبحت فيه الكنيست جهة غير مرغوبة بالنسبة للأقلية الفلسطينية، بدأ قادتها في البحث عن أفكار مختلفة للتمثيل المنفصل وأكثر الاقتراحات جدية في هذا الصدد هو الانتخاب المباشر لبرلمان فلسطيني أو إعادة ترميم لجنة المتابعة العليا التي دأبت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على رفض التعامل معها وقد أفرزت قيادة ضعيفة أقل ما يمكن أن يقال عنا أنها خاضعة لرؤساء مجالس قروية ولاءهم في الأغلب للعشائر لا للبرنامج السياسي الوطني. ورغم أن إسرائيل يمكن أن تستقبل أي إيحاء نحو الانفصالية بعداء شديد، إلا أن مثل هذه الأفكار حظيت باهتمام شديد على ضوء الثورات العربية الجارية. اقترح أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا أسعد غانم تشكيل نادي وطني ديمقراطي وقيادة تعملان كمؤسسة جديدة تسمى المجلس الوطني الأعلى. التجمع الديمقراطي الوطني كان أكثر صراحة بالنسبة للبرلمان الفلسطيني في إسرائيل كونه يتقاطع جداً مع برنامج الحزب المطالب بالحكم الذاتي التعليمي والثقافي للأقلية الفلسطينية. من جديد تبرز عقبة كأداء في سبيل التقدم وهي الجبهة الديمقراطية التي تخشى التأثير على الشراكة العربية- اليهودية.

لاشك أن تراجع نسبة مشاركة الفلسطينيين في الانتخابات الوطنية وكذلك ما يطرح عن البحث عن أشكال بديلة عن التمثيل لم تمضي من غير ملاحظة يسار الوسط في إسرائيل. يبدو ولو متأخراً أن يسار الوسط الإسرائيلي أدرك أنه لو أدار الفلسطينيون ظهورهم للسياسات الوطنية فعندئذ سيتضرر هو أيضاً رغم أن القليل من الفلسطينيين يصوت لصالح الأحزاب الصهيونية. هذا القلق يبدو في جانب منه أنه برغماتي. فأي إقبال ضعيف من قبل الفلسطينيين على التصويت سيقابله انخفاض في عدد المقاعد وهذه النتيجة ستجعل من الصعب عليه تحدي غطرسة اليمين.

أغلب أحزاب يسار الوسط غير متحمسة للجلوس مع الأحزاب الفلسطينية بيد أنها تدرك في نفس الوقت أنه وبدون وجود فلسطيني قوي في الكنيست ستكون قوة ضعيفة. ومظهر قوي للأحزاب الفلسطينية سيساعد في تقوية أيدي أحزاب يسار الوسط في الوقت الذي تماحك فيه اليمين على السماح بدخول الحكومة. كلما كانت أغلبية اليمين أقل كلما زادت التنازلات التي تطالب بها أحزاب مثل لابيد كثمن للانضمام للائتلاف. أضف إلى ذلك كله أن يسار الوسط يزداد خشية من التداعيات طويلة الأمد تجاه تخندق وتمترس اليمين. علاوة على الهجوم على الأحزاب الفلسطينية يخوض اليمين غمار معركة ضد جماعات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام والمحكمة العليا وكلها أطراف يعتبرها اليمين معقلاً لليبرالية. يرى عواد عبد الفتاح أمين عام التجمع الديمقراطي الوطني أن هذه المخاوف هي السبب وراء الأغلبية الضئيلة الذي اتخذ بها قرار لجنة الانتخابات المركزية بالسماح لحزبه بخوض الانتخابات وينوه إلى أن الأحزاب اليمينية شنت حملة محمومة لصالح حظر الحزب غير أن النجاه جاءت بعد تحول المواقف من جانب ممثلي يسار الوسط في لجنة الانتخابات المركزية. وبناء على ما يقول عبد الفتاح بدأ ينتاب يسار الوسط شعور بالذعر أثناء الحملة الانتخابية مبدياً خشيته تجاه عدم توقف عجلة الدافعية نحو اليمين. بدون عمل متفق عليه لبناء معارضة قوية راسخة لنتنياهو ستنزلق إسرائيل بالكامل نحو فاشية شاملة في الوطن وسيطغى عليه وضع الدولة المنبوذة عالمياً. هذا الانزعاج يصب في خانة المصلحة الاستراتيجية للحزب في تعزيز مكانته ضد اليمين وفي الحفاظ على برلمان يمثل على الأقل ولو رمزياً خمس سكان البلاد وهم الفلسطينيون. هنا يوجد تباين سياسي واضح ومتطابق بين اليمين ويسار الوسط. وعلى عكس ما يدركه الجمهور فإن هذا التباين لا يتعلق أساساً بالفلسطينيين أو بالعملية السلمية بل يتعلق بالأهمية التي يوليها كل طرف تجاه الانقسام حول الموقف الدولي من إسرائيل لا سيما علاقاتها بالبيت الأبيض. يبدي يسار الوسط قلقلة حيال الضرر الذي ألحقه اليمين بمصالح إسرائيل طويلة الأمد وذلك عن طريق التبجح بشموسه في موضوع العملية السلمية. حقيقة الأمر هي أن يسار الوسط لن يمنح الفلسطينيين في الأراضي المحتلة أكثر مما منحهم إياه اليمين بيد أن يولي أهمية قصوى لتخليد عملية سلمية حتى ولو كانت عقيمة كسبيل لتفادي تنفير أنصار إسرائيل. علاوة على ذلك وعلى خلاف اليمين، يخشى يسار الوسط أنه إذا لم تعد الكنيست تمثل المواطنين الفلسطينيين إما بسبب المقاطعة أو بسبب حظر اليمين فحينئذ سيصبح الحكم الاسرائيلي على الأقلية الفلسطينية غير شرعياً شيئاً فشيئاً وقد يتحول إلى نوع من الآبارتهايد. في هذه الحالة فإن دور يسار الوسط في الدفاع عن موقف إسرائيل في الحلبة الدولية سيتعرض للخظر وسيجد نفسه سريعاً في دائرة حلزونية مفرغة من التهميش السياسي والدبلوماسي.

على النقيض من ذلك اختطف لابيد مزاج المحتجين عندما قال أن الإسرائيليين كلهم "لابد أن يشاركوا في تحمل العبء" وهذا إيحاء بأن يهود الطبقة الوسطى يدفعون ثمن التراخى المفترض للوسط اليهودي المتشدد والأقلية الفلسطينية (السياسات التمييزية تعني أن نسبة العاطلين عن العمل بين المواطنين الفلسطينيين بلغت 30% أي خمس أضعاف مثيلتها في الوسط اليهودي حسب دراسة صادرة في تل أبيب). اقترح لابيد حلاً لتقاسم العبء مشيراً بالدرجة الأساس للمطالبة بوجوب تأدية اليهود المتشددين والمواطنين الفلسطينيين للخدمة العسكرية وهذا صدى لاقتراح ليبرمان سيء الصيت في حملته الانتخابية حول يمين الولاء الموجه نحو الأقلية الفلسطينية في انتخابات عام 2009. وكما يقول صلاح محسن من مؤسسة عدالة "لابيد مثل ليبرمان يوحي بأن الفلسطينيين لا يستطيعون توقع الحقوق الكاملة ونهاية التمييز ما لم يؤدوا ما عليهم من واجبات".

الواقع هو أنه عندما يلقي المرء نظرة على تكوينة وبرامج الأحزاب الكبرى أقلها الليكود يكتشف مدى الدرجة التي هيمن بها اليمين المتشدد على الكنيست الجديدة. لاشك أن المستوطنين واليمين المتشدد اختطفا بشكل فعال الانتخابات التمهيدية لليكود وقد تم تفريغ الجناح الليبرالي المتضائل في الحزب واستبداله بغلاة الوطنية ويشمل ذلك موشيه فيغلين الذي تزعم جهوداً حثيثة للاستيلاء على الليكود نيابة عن المستوطنين لأكثر من عقد، وها هو الآن يحتل ولأول مرة مقعداً عن الليكود في الكنيست. تحقق تحرك الليكود نحو اليمين المتشدد في وقت يحافظ فيه على انطباع بأنه لا زال الحزب الذي يمثل اليمين الاسرائيلي التقليدي وقد انضم إلى حزبين كبيرين في اليمين المتشدد وهما يسرائيل بيتنا والبيت اليهودي اللذين راوغا على الحلبة السياسية رغم احتفاظهما ببرنامجيهما المتطرفين. قبل حوالي عقد من الزمن كان يسرائيل بيتنا بزعامة ليبرمان حزب يميني متشدد على الهامش معني بالمهاجرين من دول الاتحاد السوفيتي السابق كما أن الاتحاد الوطني سلف البيت اليهودي كان حزباً صغيراً بشعبية بسيطة محدودة خارج أشد المستوطنات أيدولوجية.

عمل ليبرمان والزعيم الجديد للبيت اليهودي نفتالي بينت وهما مساعدان سابقان لنتنياهو على إعادة تدشين حزبيهما بسرعة حيث جلبا مزيداً من التأييد والصحيح أن تشابه البرامج الانتخابية لكل من نتنياهو وليبرمان هو الذي سمح لهما بإنشاء قائمة انتخابية مشتركة حتى أن الأحزاب المركزية لم تستطيع توفير وزن مضاد للتحول نحو اليمين وهذا التكتل الذي يشمل (هناك مستقبل) بزعامة لابيد وحزب كاديما الذي بالكاد يؤدي وظائفه والذي أسسه أرئييل شارون منذ سبع سنوات وانشق فيه عن الليكود وكذلك جماعة (هتنؤاه) التي أسستها عضو حزب كاديما السابق تسيبي ليفني تعتنق مواقف تؤهلها بكل ارتياحية لأن تتموضع في الجناح اليميني التقليدي الإسرائيلي. ببساطة ملأ الوسط الإسرائيلي الفراغ الذي خلفه رحيل الليكود إلى اليمين المتشدد.

لم تولي آراء لابيد حول الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني أي اهتمام إبان الحملة الانتخابية. أطلق لابيد برنامج حزبه من مستوطنة أرئييل وهي الكتلة الاستيطانية الأضخم التي تشكل أكثر القضايا إثارة للجدل بسبب موقعها العميق في الضفة الغربية قرب نابلس. يستطيع نتنياهو أن يشترك في برنامج لابيد حول القضايا السلمية والواقع حسب استطلاعات الرأي الإسرائيلية فإن نصف مؤيدي لابيد يصنفون أنفسهم باليمين وبعضهم ناخبون سابقون لليكود نفرهم جريان الليكود بلا هوادة نحو اليمين.

يقول لابيد عن المستوطنين في برنامجهم أنهم "صهيونيون حقيقيون" ويضيف :نحن نطلب من بعضهم بقلوب يعتصرها الألم أن يضحوا بأرواحهم". يعتبر (هناك مستقبل) "القدس العاصمة الأبدية لإسرائيل....." ستبقى القدس موحدة تحت السيادة الإسرائيلية" أما بالنسبة للقضايا الأمنية يوضح الحزب بأن "لإسرائيل الحق في العمل داخل مناطق الدولة الفلسطينية المستقبلية كلما دعت الحاجة لذلك في سبيل تأمين أمنها القومي". أما بالنسبة لحماس فيقول "إسرائيل لن تتفاوض مع فصيل ما لم يغير مثياقه ويعترف بحق الشعب اليهودي في الوجود على أرضه" بشكل عام يتهم الحزب الفلسطينيين بأنهم "لا يفوتون فرصة تفويت فرصة وقد رفضوا مراراً وتكراراً يد إسرائيل الممدودة للسلام. وهذا ما حصل إبان الانتفاضة الأولى وأثناء الانتفاضة الثانية".

يقول زفي بارئيل وهو كاتب عمود في صحيفة هآرتس "إذا لم يكن هناك شريك وإذا بقيت القدس لإسرائيل للأبد وإذا طلب من بعض المستوطنين الحقيقيين ولم يجبروا على ترك منازلهم وإذا اختارت إسرائيل في أي لحظة العمل داخل أراضي الدولة الفلسطينية فماذا يتبقى للحديث عنه مع الفلسطينيين؟" واختتم بارئيل كلامه قائلاً "البرنامج الانتخابي (لهناك مستقبل) لف سياسة نتنياهو بورقة ملونة مشدودة بخيط ومعروضة للبيع كفكرة أصلية تجلب الأمل".

إلى حين كتابة هذه السطور لا زالت المفاوضات المتعلقة يتشكل ائتلاف نتنياهو تجري على قدم وساق، بيد أن التقارير الواردة عن وسائل الإعلام الإسرائيلية تفيد بأن لابيد الذي كان نافراً جداً من التحالف مع حنين زعبي أبرم اتفاقاً مع البيت اليهودي يتم بمقتضاه دخول الحزبين معاً إلى الائتلاف لمنع نتنياهو من إثارة أي منهما على الآخر لمصلحته الشخصية علماً بأن كلا الحزبين يسعيا إلى تعزيز أفكار "تقاسم العبء" وتقليص فرص نتنياهو بضم المتدينين المتشددين للائتلاف.

هناك فوائد تعود على نتنياهو من وراء جر يسار الوسط كما ينوه أحد مسؤولي الليكود باستهزاء لصحيفة هآرتس حول نوايا نتنياهو في إغرار ليفني أيضاً "يدرس نتنياهو بجدية إسناد منصب وزير الخارجية بالوكالة لليفني والمسؤولية عن العملية السياسية وستعمل ليفني على تبييض وجه حكومة نتنياهو في عيون العالم بالضبط مثل فعل حزب العمل وبعده حزب يهود باراك المنشق عتصموت الذي بيض حكومة نتنياهو السابقة".

إن البيت الأبيض وباراك أوباما الذي يحرص جداً على استعادة وضعه المشوه كوسيط نزيه في العملية السلمية المتوقفة لا يألو جهداً في استغلال خطوط يسار الوسط التي يفترض أنها أحيت من جديد وزيارته إلى إسرائيل في مارس آذار القادم وهي الأولى منذ توليه الرئاسة عام 2009 ستتم رغم ما يصفه مسؤولو نتنياهو لها بأنها تدخل في عملية تشكيل الائتلاف الحكومي. يعتقد مسؤولو الليكود أن لابيد سيتمكن من انتزاع تنازلات أكثر من نتنياهو في المفاوضات الائتلافية لأن زعيم الليكود لا يريد أن يستقبل الرئيس الأمريكي كرئيس لحكومة دينية يمينية متشددة. الاشاعات الصادرة من واشنطن تقول بأن أوباما ووزير خارجيته الجديد جون كيري سيستغلان الزيارة للضغط على نتنياهو وعباس لإعادة إحياء مفاوضات السلام. خطر خرافة نفخ الصور في يسار الوسط يكمن في كونها ستساعد على منح أوباما ونتنياهو حيزاً لإعادة الروح لعملية سلمية رغم أنها تسير فإن موتها وحياتها سيان.

2014-03-16 13:43:00